jeudi 22 décembre 2016

الذي قتل السفير الروسي هو الذي قتل حلب

إن الذي قتل السفير الروسي هو الذي قتل حلب؛ تلك السياسة التحريضية وأطماع الإخوان المسلمين، فماذا تنتظر من الشباب إذا كان الإعلام الرسمي يقول له روسيا تدفن أطفال حلب تحت الأنقاض.

الفتى الذي قتل السفير الروسي من مواليد 1994، لا فائدة من مراجعة التراث الفقهي والعقلي بعد فعلته، الموضوع مجرد عاطفة بسبب الحملة الإعلامية المبالغ فيها حول حلب. صحيح أن رجب طيب أردوغان ورّط السوريين، غير أن الشاب لا يرى سوى الأطفال تحت الأنقاض، والطائرات القاصفة روسية.
الشيعة، من جهتهم، يبالغون في ربط كل شيء بالإسلام السني. فلو كانت روسيا قد هدمت كربلاء بالطائرات، وتقدم فتى من شيراز وقتل السفير الروسي في طهران وهو يردد “يا حسين” ما هو شعور الشيعة عندها؟ ألن يقولوا بأنه مجرّد ولد طائش وإنها جريمة عاطفية عادية.
الإعلام التركي شريك في الجريمة فهو الذي بيّن للشباب بأن روسيا ترتكب جريمة في سوريا، وحشد المشاعر ضد دولة هي حليفة لها. فظهر شاب يردد أهزوجة الأنصار “نحن الذين بايعوا محمدا/ على الجهاد ما حيينا أبدا”، بينما سفير دولة عظمى ممدد على الأرض. مشهد مشحون ومأساوي.
كل شيء نفهمه في السياسة إلّا شيء واحد، حين تنزل روسيا بجيشها إلى سوريا ونحن نسلح الشعب كي يقاتل، هل حقا نقاتل روسيا؟ كيف؟ ألسنا مقتنعين بالسلام مع إسرائيل بسبب قوتها؟ فكيف نهزم دولة أقوى من إسرائيل بالعشرات من المرات؟ ما هي الضرورة؟ إسقاط حاكم؟ لا داعي لذلك إذا كانت النتيجة مجرّد انتحار. حسب فهمي المتواضع المفروض نتوقف وننصح المسلحين بعدم تعريض حياة الأبرياء للخطر. لعام كامل أصرّت قطر وتركيا على الصمود، فكم عائلة أبيدت حتى عقد أردوغان صفقته مع روسيا؟
أردوغان يبشر السوريين ببناء مخيّم جديد لهم. يحرضهم على هدم بيوتهم وخراب بلادهم، ويقدّم لهم خيمة بدلا من بيت العائلة وحديقة الياسمين. مخيمات يهدّد بها أوروبا ويبتز المال ويرفع التأشيرة عن الجواز التركي وعضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي.عنصر أمن تركي يقتل السفير الروسي لا شك بعدها أن بعض العرب سيوقفون الشحن وحملتهم الإعلامية. التعاطف مع حلب أوصل جبهة النصرة وبقية الفصائل إلى الهتاف باسم الدواعش؟ الإرهابيون أصبحوا مصدر إلهام للتمرد على القانون.
حين خصص الخليفة البغدادي جزءا من كلمته للتحريض على تركيا كنّا نضحك، تماما كما نضحك حين حرض العدناني القتيل على أميركا، وفي النهاية حدثت عملية إرهابية لا مثيل لها في فلوريدا، هزت الولايات المتحدة هزا. رجل بمفرده يقتحم ملهى للمثليين ويقتل ببندقيته أكثر من خمسين شخصا.
التحريض المبالغ فيه إعلاميا أين سيقودنا؟ ماذا لو انشقت فرق عسكرية؟ ماذا لو انشق طيار تركي وقصف قاعدة روسية؟ ماذا لو بايع جنرالات مسلمون البغدادي؟ ماذا ستفعل تركيا الآن؟ تقاتل الأكراد؟ تقاتل المتطرفين؟ تقاتل الانقلابيين الأتاتوركيين؟ وهو أمر ينطبق على بعض العرب أيضا؟
بتاريخ 11 ديسمبر تمّ تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة، وأعلنت الدولة الإسلامية مسؤوليتها عن التفجير الانتحاري الذي حصد 25 قتيلا مصريا وعددا كبيرا من الجرحى، وفي الأحد الذي تلاه 3 هجمات متزامنة قام بها مسلحون في مدينة الكرك الأردنية عند الحدود السعودية، ضد عدد من دوريات ومراكز الأمن والسياح وأعلنت الدولة الإسلامية مسؤوليتها أيضا.
وفي نفس اليوم اغتيال السفير الروسي في تركيا على يد عنصر أمني تركي، سمعنا عن إرهابي يقود شاحنة بلوحة أرقام بولنوية ويدهس الناس في برلين التي استقبلت 900 ألف لاجئ مسلم من الجحيم. إنها لا شك قيامة من نوع خاص. لا نستطيع تجاهل كل ما يجري من حولنا وعدم ربط الأحداث.
السنة تمّ ضربهم عقليا في الصميم، من جهة صاروا يقولون نحن ندافع عن العقيدة الصحيحة؛ التوحيد ورسالة محمد فظهر داعش كنموذج أقصى لهذه الرسالة؛ أناشيد وانتحار وإيمان، فقالوا هذا إرهاب. ثم قالوا نحن ندافع عن الإسلام السني المعتدل وهو يقاتل في سوريا، فباعتهم تركيا وقطر لروسيا مقابل صفقة، فقالوا هؤلاء غادرون. ثم قالوا نحن علمانيون ليبراليون، فقال لهم الشيعة أهلا وسهلا نحن نرحب بالليبراليين، فنصف الشيعة علمانيون وليس عندنا تكفير. هنا اكتشفوا بأنهم أمام فلاسفة ماكرين، وهذا ما حدث بعد سقوط حلب، سقط دماغهم واحترق، لهذا يكتبون المراثي، فهذا رثاء لمحنتهم، لا للمدينة التي زجّوا بها في معركة خاسرة.
300 ألف مواطن قطري جمعوا 70 مليون دولار تبرعات في اليوم الوطني لشعب نزف منه 300 ألف قتيل؛ أهل الخير جزاهم الله خيرا، بينما هاري كاكافاس رجل عقارات أسترالي خسر مليارا ونصف مليار دولار في سنة واحدة في القمار. عام 2006 خسر الرجل 160 مليون دولار في أقل من ست ساعات، وفي نفس السنة 2006 حصل حزب الله على مليار دولار من قطر، ليست تبرعات وإحسانا، بل منحة حكومية.
يشترون للسوريين سلاحا من أوروبا الشرقية بمئات الملايين من الدولارات لقتل الجندي السوري، وحين يصل الأمر إلى الفقراء يجمعون الحسنات.
الذي يحدث حين تتدخل الدول المجاورة يصبح التنافس السياسي على حساب البلاد، فالسني يريد أن يثبت للعرب بأنه أكثر شخص يكره إيران والشيعة، والشيعي يريد أن يثبت لإيران بأنه أكثر شخص يكره السنة والعرب، وهذا التنافس لأجل النفوذ أو الدعم المالي ينتهي إلى مذابح يذهب ضحيتها الفقراء والأطفال.
التاريخ حافل بهذه الجرائم المشابهة لحادث اغتيال السفير الروسي، ولكن علينا أن نتساءل مَن الذي قتل السفير الروسي؟ أليس الإعلام الذي أقنع الناس بأن روسيا تمارس القتل في حلب، بينما الولايات المتحدة تلقي الورود على الموصل. هذا التناقض يجب أن يتوقف. علينا أن نعترف بأن العدو الأول هو الإسلام السياسي الإرهابي.
ميليشيات مجرمة ولا شك تقاتل بسوريا ولكن من أرسلها؟ حكومة العراق وإيران. ومن استقبلها؟ حكومة سوريا.
عندهم راتب وتقاعد ودولة تأمرهم وهي مسؤولة عنهم، حتى الأفغاني المرتزق في سوريا تجد أن إيران تعطيه إقامة وتأمينا صحيا وتعليما لعائلته، وبعد سنتين تعطيه الجنسية الإيرانية. بينما السني في العراق وسوريا حين يتمرّد فأي دولة تعترف به وتستقبله وتتحمل مسؤوليته؟
الدول العربية الحكيمة قالت عندنا خلاف كبير مع المشروع الإيراني إلا أنه خلاف بين دول، بينما العدو الأول هو الإرهاب. التطرف يعتمد فلسفة عجيبة فهو يقول لك: التجارة مع الله هي التجارة الرابحة، والله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وبعدها يدخل إلى الجهاد في سبيل الله. تجارة دم وغش واحتيال. يريدون خوض معارك بميزانية حربية اسمها “الجنة”.
إن الذي قتل السفير الروسي هو الذي قتل حلب؛ تلك السياسة التحريضية وأطماع الإخوان المسلمين، فماذا تنتظر من الشباب إذا كان الإعلام الرسمي يقول له روسيا تدفن أطفال حلب تحت الأنقاض؟ ماذا تنتظر منهم إذا كان أردوغان يصف المسلحين السوريين بالثوار المؤمنين؟ ماذا ننتظر من الشاب المسلم إذا أقنعناه بأن أندريه كاربوف هو سفير الدولة المجرمة التي ذبحت مدينة حلب؟ وأن مصر حليفة الصليبيين؟ وأن الأردن حليف للصهاينة والإنكليز؟ نحن نسلح ونحرض لأجل شيء غير مفهوم، فما هو الهدف؟

العرب أسعد البصري [نُشر في 2016/12/22، العدد: 10493، ص(8)]

أسعد البصري

كاتب عراقي


mardi 6 décembre 2016

«الضفدع المغلي»... فخٌّ أميركي لمصر

تظل نظرية «الضفدع المغلي» واحدة من أصدق النظريات سياسياً، وإن ثبت عدم دقتها علمياً. في عالم السياسة ما يكفي من أمثلة تُذكِر بحيلة وضع الضفدع، الذي لا يشعر بالتغير البطيء في درجة الحرارة، داخل إناء به ماء يتم تسخينه تدريجياً، فلا يقفز حتى يموت دون أن يدري أنه يموت.
هناك مقولة شهيرة منسوبة لجون آدمز، ثاني رئيس بتاريخ أميركا، «هناك طريقتان لقهر واستعباد الأمم: الأولى بالسيف، والأخرى بالديون». إن جادل البعض في صحة نسب المقولة لقائلها، فإن تجارب الواقع والتاريخ تُصعِب عليهم الجدال في صحة مضمونها. ولكن كيف يتم توريط الأمم ودفع الدول دفعاً إلى فخ الاستدانة؟ هنا يأتي دور أسلوب «الضفدع المغلي» كأحد أهم الوسائل. والمثال الأوضح ــ لا الأوحد ــ على هذه النظرية بمنطقة الشرق الأوسط، هو استراتيجية واشنطن تجاه مصر منذ بداية أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي».
الدول كالأفراد، تمتلك جهازاً مناعياً متعدد الوظائف. أما بالنسبة إلى الدول، فكأن جهازها المناعي خماسي الوظائف: «سياسي – اجتماعي – اقتصادي – عسكري – ثقافي». وأن تمتلك دولة ما مناعة عسكرية أو اقتصادية، لا يعني أنها بالضرورة تمتلك نفس المناعة الاجتماعية أو السياسية مثلا، أو العكس. ويختلف التكتيك الهجومي المطلوب باختلاف طبيعة الدولة ونقاط قوتها وضعفها. فالحديث هنا عن أسلوب «الضفدع المغلي» يعني إنهاك الدولة المستهدفة بشكل تصاعدي بطيء، من دون اللجوء إلى عنف مباشر قد يستفز غريزة المقاومة لدى هذه الدولة. حتى تصل تلك الدولة إلى مستوى عالٍ من الضعف والاحتياج تفقد معه مناعتها أمام التدخل الخارجي الانتهازي، تماماً كما يفقد جسد مريض الإيدز مناعته أمام ما يعرف طبياً بـ«العدوى الانتهازية». بالتالي تفقد إرادتها ومن ثم قرارها. فالهدف هنا ليس تدمير الدولة المستهدفة و إحراقها، بل السيطرة على قرارها السياسي وتوظيفها، بما تملك من طاقات، لصالح مشاريع الطرف الخارجي المسيطر.
لماذا اللجوء إلى أسلوب «الغلي» أحياناً؟
يظن الكثيرون، داخل وخارج مصر، أنها أفلتت من مخططات تقسيمية ما زال سيفها مسلّطاً على دولٍ أخرى مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا. بل إن التباهي بهذا «الإنجاز» تحول إلى ملاذٍ يلجأ له النظام الحاكم، كلما تطلب الأمر ضخ جرعة تفاؤل بالمجتمع المصري القلِق من الهزات الاقتصادية المتتالية. حيث تنتشر في مصر في العامين الأخيرين مقولة مزعجة لا تتسم بالدقة أو الحكمة مفادها أن: «الحمد لله أن حال مصر الآن ليست كحال سوريا والعراق». بينما في الواقع لا يمكن لمصر أصلاً أن تكون مثل سوريا أو العراق، والأمر هنا لا يتعلق بالأفضلية بل بالاختلاف. وهو نفس الاختلاف الذي يدركه صانع القرار الأميركي. فمن ينحي التحليلات المتسرعة التي تغفل التفاصيل والفروق جانباً، ويتأمل في الخريطتين الاجتماعية والجغرافية لبلد مثل مصر، سيدرك بسهولة استحالة تقسيم مصر التي تحظى بنسيج اجتماعي فريد الانسجام عرقياً وثقافياً. مصر بلد الأغلبيات الكاسحة: أغلبية مسلمة كاسحة بين السكان (92 – 94%)، أغلبية سنية كاسحة بين المسلمين (98 – 99%)، أغلبية أرثوذكسية كاسحة بين المسيحيين (88 – 90%). وبين هذه الأغلبيات يختفي التمايز القبلي، ويندر العرقي لينحصر بأقليات ضئيلة جداً لم تخطر يوماً ببال غالبيتها فكرة الانفصال. هذا فضلاً عن عوامل ديموغرافية تجعل من الكثافة السكانية العالية بغالبية مدن بلد الـ 92 مليوناً، مانعاً بشرياً أمام أي مغامرات داعشية (في ظل غياب الحاضنة الشعبية) واسعة النطاق شهدتها ساحات صراع. المواجهة العسكرية المباشرة بين الجيش المصري وعصابات الإرهاب تنحصر بمنطقة حدودية لا تزيد مساحتها عن 750 كلم مربع (50 كم طولاً و15 كم عرضاً)، في ظل تفوق واضح للجيش لا يسمح للإرهاب أو مموليه بتوسعة نطاق المعارك.
و إذا كانت الجغرافيا في مصر، لا تسمح بانعزال الأطراف عن المركز أو اتصال هذه الأطراف بالخارج بما يفوق اتصالها بالداخل، فإن التاريخ يظل حائط الصد الأقوى أمام أي مشاريع تقسيمية. فلما كان لا بد من وجود أساس تاريخي ما (حقيقي أو زائف) لأي مشروع تقسيمي بأي بلد، إلا أن أول وآخر تقسيم بتاريخ مصر كان منذ 53 قرناً وانتهى بتوحيد القطرين (!) هناك فارق كبير يغفله البعض بين الانقسام السياسي أو الاجتماعي، وبين التقسيم السياسي أو الاجتماعي. وأبداً لا يعرف مصر وخصائصها، كل من يتوهم أن يطالها تقسيم من أي نوع كان. لكن واشنطن تعرف مصر وتعي خصائصها، لذلك فإن مشاريعها تجاه مصر لا تشمل أي فدرلة أو تقسيم سياسي أو اجتماعي.
أما من يدرس الحالة المصرية ليحدد نقاط الضعف، فسيجد عسراً في التمييز بين كتلة سكانية وأخرى في الشعب المصري إلا على أساس الدخل والثروة. حيث حجم التفاوت الواضح وتزايد اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، في بلد تبلغ به نسبة الفقر 27.8% بالبيانات الرسمية، و40% بالبيانات غير الرسمية. أما الأهم فهو ما يكشفه «تقرير الثروة العالمي» الذي يصدره «كريدي سويس» سنوياً:
وفقاً لتقرير عام 2104 (استعرض بيانات 46 دولة)، حصة أغنى شريحة تمثل 1% من سكان مصر (البالغين فقط بالطبع) كانت 48.5% من مجموع الثروة الكلية عام 2014، و32.3% عام 2000. بينما حصة أغنى شريحة تمثل 10% من سكان مصر كانت 73.3% عام 2014، و61% عام 2000. مصر قد لا تنفرد بالخلل في توزيع الثروة واستئثار الشرائح الأغنى بالنسبة الأكبر من الثروة، لكن ما يميز الحالة المصرية هو التزايد المستمر في هذا الخلل، فضلاً عن «معدل» هذا التزايد الذي يضع مصر في المرتبة الثانية بعد الصين، وفقاً لتقرير عام 2015 (استعرض بيانات 58 دولة): من مجموع سكان مصر، وبالتصنيف الاجتماعي على أساس الثروة، شكلت الطبقة الوسطى نسبة 5% من مجموع السكان (وتمتلك 25.2% من مجموع الثروة)، علماً بأن التقرير حصر الطبقة الوسطى على أساس الثروة (عينية + مادية)، بحيث تشمل من تتراوح ثرواتهم بين 14.544 ألف دولار كحد أدنى و145.44 ألف دولار كحد أقصى. أما الأكثر ثراء فكانت نسبتهم 0.4% فقط. وبينما انخفض مجموع ثروات الطبقة الوسطى بين عامي 2000 و2015 بقيمة 7 مليار دولار، ارتفعت ثروات الطبقات الأكثر ثراء بقيمة 79 مليار دولار، أما متوسط حجم الثروة الكلية للفرد الواحد من المجموع الكلي للسكان (البالغين فقط) فقد تقلص بنسبة 3.4% بين عامي 2000 و2015، وبنسبة 10.9% بين عامي 2010 و2015 (هو الانخفاض الأسوأ بين دول العينة).
نقطة ضعف مصر تكمن في الاقتصاد والتفاوت الطبقي، وهي المدخل الأمثل لإنهاك مصر بدفعها إلى الاستدانة بالتوازي مع خلخلة تماسك المجتمع المصري طبقياً. هناك دول أكثر تقدماً وغنىً من مصر تعاني التفاوت نفسه في توزيع الثروة، إلا أن فقراء هذه الدول لا يعانون ما يعانيه فقراء مصر من تدني مستوى شبكة الأمان الاجتماعي والخدمات العامة. هذا كله لا يعني انخفاضاً حاداً في مستوى العدالة الاجتماعية فحسب، بل يعني أيضاً تهديداً محتملاً للسلم الاجتماعي إن استمر تزايد اتساع الفجوة في الثروة والدخل، بهذا المعدل الخطير.
أدوات ووسائل الغلي
لا يوجد رئيس مصري لم يلجأ للاقتراض. لكن ليس بين جميع رؤساء مصر من جرؤ على اتخاذ وتنفيذ القرارات الاقتصادية «الصادمة» التي اتخذها الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخراً، وبدأت الحكومة المصرية في تنفيذها تلبية لشروط (أو أوامر) صندوق النقد الدولي، من فرض ضريبة القيمة المضافة إلى تعويم الجنيه وتخفيض الدعم على الوقود والطاقة تمهيداً لرفعه، بالإضافة إلى إلزام مصر بسداد ما عليها من مستحقاتٍ متأخرة لشركات النفط والغاز الأجنبية. قرارات أخرى متوقعة لاحقاً مثل تقليص جهاز العاملين في الدولة وبيع حصص من شركات عامة وأصول حكومية لمستثمرين أجانب. 
لكن هل النظام المصري مطمئن حقاً لتبعات قراراته الأخيرة؟
المفارقة أن السيسي الذي أبدى إعجابه بالرئيس الراحل أنور السادات، واصفاً أفكاره بأنها كانت تأتي من خارج الصندوق (صندوق الأفكار التقليدية)، يعلم جيداً أن أفكار السادات بالذات كانت آتية من داخل الصندوق (صندوق النقد الدولي). فالسادات كان أول رئيس مصري يحاول تنفيذ شروط الصندوق بالكامل عام 1977، وفشلت محاولته بعدما أدت إلى اندلاع «انتفاضة يناير» الشعبية التي لم تخمد إلا بتدخل الجيش، الذي اشترط قائده (المشير الجمسي) وقتها على السادات أن يتراجع عن قرارته، التي تسببت في موجة غلاء فاحش بأسعار السلع الأساسية. ومن اللافت ما يبديه النظام المصري والإعلام الموالي من احتفاء وحماس غير مفهومين عندما يتعلق الأمر بمجرد «قرض»، بالتوازي مع محاولات يائسة لإضفاء طابع وطني إصلاحي على تلك القرارات وكأنها فخر صناعة عقل صانع القرار المصري، عبر وصفها بـ «البرنامج المصري الخالص» ونفي شروط الصندوق بنص بيان سابق لوزارة المالية فضلاً عن تصريحات رئيس البنك المركزي. كل هذه المبالغات تجاه هكذا قرارات، لا توحي في الواقع باطمئنان صاحبها، بل بقلقه وإدراكه (بمعزل عن طبيعة قناعاته الأيديولوجية) لمدى خطورة تبعاتها. لكنه، برغم قلقه، سيغامر ويسير في هذا الاتجاه بعد أن بدد خلال عامين فقط جزءاً كبيراً من رصيد تأييده الشعبي، بدلاً من استثماره في تحرير مصر من قيد أميركي اعتباري، ظل يعيقها منذ عقود عن مجرد التفكير في أي بدائل منطقية. فمن جَبُنَ عن خوض المغامرة بالخارج من البداية، ليس أمامه إلا أن يخوض المغامرة في الداخل حتى النهاية.
ليس من الممكن فهم قصة فيلم بشكل كامل من خلال لقطة واحدة، وقطعة واحدة من «لعبة بازل» لا تكفي لفهم كامل الصورة. من يريد فهم استراتيجية واشنطن تجاه مصر عليه أن يراجع مجمل مواقفها السابقة (ومواقف أدواتها من مؤسسات ودول) منذ تنحي مبارك وحتى الآن، بترتيبها الزمني:
في فترة حكم المجلس العسكري، رفض المجلس برئاسة المشير حسين طنطاوي قرضاً من صندوق النقد الدولي بقيمة 3.2 مليار دولار، برغم موافقة الصندوق الذي أكد وقتها استعداده لدعم مصر وتونس بمبلغ 20 مليار دولار (قسمها الأكبر لمصر برغم عدم وجود برلمان مصري بهذه الفترة) بشروط أقل تشدداً من شروطه الحالية. تخوف طنطاوي حال دون إتمام القرض، بشهادة سمير رضوان وزير المالية الأسبق في حكومة عصام شرف التي فاوضت الصندوق. وخلال هذه الفترة بدأت تتشكل ملامح عصابات الإرهاب بصيغته الحالية في سيناء.
في فترة رئاسة مرسي، وافق الصندوق على طلب مصر بالحصول على قرض بقيمة 4.8 مليار دولار، بشروط لا تختلف كثيراً عن شروط القرض الحالي. لكن القرض لم يرَ النور إثر عزل مرسي بـ«ثورة 30 يونيو» عام 2013 قبل شهور قليلة من تسليم القرض في تشرين الثاني/ نوفمبر. واقترضت مصر من قطر وليبيا وتركيا. وخلال هذه الفترة وقع أول هجوم إرهابي ضخم على الجيش المصري في سيناء.
في فترة رئاسة عدلي منصور ثم السيسي: اقترضت مصر، من السعودية والإمارات وبقية دول الخليج ما عدا قطر، ما وصف بأنه «أكبر تدفق نقدي بتاريخ مصر»، فضلاً عن دعم مواد بترولية وعقود سداد أجل بقيمة 50 مليار جنيه (مع ملاحظة أن أرامكو جمدت العقود قبل قرض الصندوق مباشرة). و لم تكتف مصر فوق ذلك بقرض الصندوق، بل فاوضت جهات متعددة حول المزيد من القروض: البنك الدولي، البنك الأفريقي للتنمية، ألمانيا، الصين، أندونيسيا، قروض صغيرة من دول اليابان وكوريا الجنوبية والدول الاسكندنافية، طرح سندات للبيع في بورصات أجنبية. بمجموع قروض قد يصل إلى 40 مليار دولار (بحال حصول مصر عليها مجتمعة) لتتحول إلى ديون خارجية محتملة، فضلاً عن 53 مليار دولار على الأقل ديون خارجية قائمة. وخلال هذه الفترة تكثفت عمليات الإرهاب وترسخ وجوده كأمر واقع في سيناء.
كان بإمكان واشنطن منع حلفائها وأدواتها من إقراض مصر. لكن عندما ينشر صندوق النقد الدولي فيلماً ترويجياً عن الاقتصاد المصري بعنوان «مصر... فرصة للتغيير»، ويصرح مسؤول في وزارة الخزانة الأميركية ــ لـ«رويترز» ــ أن واشنطن تدعم القرض وتراه مهماً وضرورياً لمصر، على تواصل مع إدارة الصندوق التي تسعى لضمان تمويل القرض بالكامل من مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، فإن هذا يعني أن واشنطن هي أكبر المشجعين، بل والمحرضين، على سياسة الاقتراض التي تورطت بها مصر. هذا التشجيع يظل قائماً بمعزل تام عن تغير رؤساء وحكومات مصر، أو أي تذبذب طفيف قد يطرأ على العلاقة بين واشنطن والقاهرة من وقت إلى آخر.
ليس السؤال هل ستنجح مصر في علاج اقتصادها وسداد ديون القروض في السنوات المقبلة، أم لا. بل السؤال هو: هل يريد الصندوق لمصر أن تنجح في سداد ديون القروض؟
لفهم حجم الخطر الذي يهدد مصر، يكفي أن نعلم أن ديون البرتغال واليونان وأوكرانيا (أول ثلاث دول في قائمة أكبر دين للصندوق)، هي بالترتيب: 21.7 و16.6 و11.3 مليار دولار. أي أن مصر بقرض 12 مليار بواقع 4 مليار لمدة 3 سنوات، ستتخذ موقعها المتقدم في قائمة الدول المدينة للصندوق. من بين أكثر من 70 دولة مدينة للصندوق، لم تنجح إلا 11 دولة فقط منذ عام 2000 في سداد كامل ديونها، هي كوريا الجنوبية، البرازيل، روسيا، الأرجنتين، الأوروغواي، تركيا، لاتفيا، المجر، مقدونيا، رومانيا، آيسلندا. وبين هذه الدول دول صناعية كبرى، وأخرى تنتمي للناتو أو تحت مظلته فلن يسمح بانهيارها، فضلاً عن المجر التي «طردت» الصندوق حرفياً عبر مطالبته رسمياً بالرحيل حماية لاستقلالها الاقتصادي، وأعادت ما تلقته من قرض لم تكن تحتاج إليه أصلاً. فما موقع مصر، في ظل ظروفها الحالية، في معادلات قوة الاقتصاد واستقلالية القرار قياساً بهذه الدول؟
يعلم صندوق النقد الدولي (بما يعبر عنه من إرادات قوى تدور غالبيتها العظمى في الفلك الأميركي) أن ما وصف بأنه «أكبر تدفق نقدي بتاريخ مصر» عبر القروض الخليجية، لم ينقذ الاقتصاد المصري من الانحدار السريع. وأن مصر لا تمتلك رؤية ــ فضلاً عن خطة ــ تضمن علاج عجز الميزان التجاري عبر رفع حجم الصادرات أو التوسع في الصناعة وإعادة فتح المصانع المغلقة لتقليل الواردات، أو تعظيم دخل القطاعات الخدمية من العملة الأجنبية. كما يعلم الصندوق أن مصر ستصرف أموال القروض على علاج عجز الموازنة ومنع انهيار الجنيه، لا على مشروعات تنموية إنتاجية، ثم تضطر للاستدانة مجدداً لتسديد أقساط ديون القروض القديمة بقروض جديدة. وأن مصر على وشك السقوط بدوامة الاقتراض المستمر التي سقطت بها دول عدة بإشراف الصندوق نفسه وخططه نفسها. كما يعلم الصندوق أن مصر فرضت ضريبة القيمة المضافة التي تقع على عاتق المستهلك بالضرورة بحكم كونها ضريبة غير مباشرة، مددت في المقابل تجميد ضريبة الأرباح الرأسمالية بالبورصة لثلاث سنوات إضافية، وأزاحت هذه الضريبة عن عاتق الأغنياء كبار المستثمرين والمضاربين. وهذا يعني أن المستثمر الأجنبي سيفضل البورصة على المشاريع الإنتاجية (التي تحتاج إليها مصر مستقبلاً لسداد ديونها) ليجني أكبر الأرباح على حساب صغار المضاربين، ثم ينسحب خارج السوق المصرية باستثماره وأرباحه. وأن ما يروجه النظام المصري حول ضرورة إعادة توزيع الدعم بشكل عادل ليصل إلى مستحقيه، غير قابل للتطبيق عملياً في ظل غياب قواعد بيانات دقيقة لدى الحكومة، فضلاً عن عدم وجود ما يشير إلى إمكانية علاج مساوئ البيروقراطية المصرية قريباً.
يعلم الصندوق أن مصر تسير نحو مكمن الخطر، ويحثها على مواصلة السير بنفس الاتجاه و بسرعة أكبر.
الخلاصة أن الأميركي يطبق نظرية «الضفدع المغلي» على مصر (بنفسه وعبر وسطائه) باستخدام 3 وسائل إنهاك بالتزامن، مع عدم الإخلال بشرط «التصاعد البطيء» لهذا الإنهاك:
إغراق مصر في دوامة القروض، وإلزامها بقرارات تؤدي في النهاية إلى تحطيم وسائل الإنتاج وانتزاع بقيتها من يد الدولة، وتقليص حجم الطبقة الوسطى.
إبقاء جذوة عصابات الإرهاب الوهابي مشتعلة في سيناء. أو على الأقل عدم تسهيل إخمادها بدعم معلوماتي استخباري أو تجفيف شبكات التمويل، لتظل مصر في احتياج دائم إلى صفقات سلاح «مقننة» كماً و كيفاً. وهي صفقات لا تكون في النهاية من نصيب روسيا (على الأقل الأساسية والضخمة منها) كما أثبتت التجربة عملياً بالعامين الأخيرين بعكس ما يشاع إعلامياً، بل تكون من نصيب دول تنتمي إلى الناتو، وبتمويل من دول خليجية متحالفة مع الناتو.
تشجيع اندفاع القرار المصري باتجاه سياساتٍ من شأنها تجذير الخلل في توزيع الثروة، مع نسف ما تبقى من مكاسب اجتماعية/ اقتصادية قديمة للطبقات الأشد فقراً. لتتحول هذه الخريطة الاجتماعية المشوهة إلى «قنبلة اجتماعية غامضة»، ليس من المعلوم كيفية أو توقيت انفجارها.
الفخ الأمريكي ليس مخصصاً لمصر وحدها. ربما يجب على تونس بالذات أن تنتبه وتتأمل كل ما يحدث في مصر بتركيز. فالحالة التونسية هي الأقرب شبهاً للمصرية عند الحديث عن إمكانية تطبيق نظرية «الضفدع المغلي» بالمنطق نفسه والهدف نفسه. وتونس على الأرجح هي الهدف التالي في القائمة بعد مصر مباشرة. لكن لكل حادث حديث، والحديث الآن حول: هل سيقفز الضفدع من الماء الساخن قبل فوات الأوان؟ وإن قرر أن يفعل، فهل تبَقى بقدميه ما يكفي من قوة لازمة لوثبة كهذه؟
خالد عبد الآخر
* كاتب مصري

رسالة إلى ميشال عون مجردة من لقب الرئيس

أخاطبك باسمك المجرد من لقب الرئيس لأنني واحد من مئات الألوف من اللبنانيين الذين لا يعترفون بنظامنا السياسي، ويعتبرونه إقطاعياً وطائفياً وعنصرياً، ويعتبرون ممثليه مجحفين في حق الوطن والمواطنين. كذلك لا أسمح لنفسي بأن أخاطب الآخرين في هذا النظام بألقابهم، ممن يحملون ألقاب دولة الرئيس، ومعالي الوزير، وسعادة النائب.
آمل يا سيد عون، أن لا تظن بي الظنون، أو يخالجك أدنى شعور بأني كنت أتمنى أن يختار نواب الطوائف رجلاً غيرك رئيساً للجمهورية. لست من هذا الحزب أو ذلك الحزب، ولا من هذا التيار أو ذاك، ولا من هذه الطائفة وتلك. أريد أن أكون مواطناً في دولة مدنية إنسانية، لا يحكمها لوردات الحروب وأمراء الطوائف، وأعتقد أن معظم اللبنانيين، خصوصاً الغالبية من شباب الوطن وصباياه، يشاطرونني هذا الرأي وهذا الشعور.
أنت لا ترضى بأن تخاطب أبا بكر البغدادي بلقب "خليفة المسلمين"، لأنك لا تعترف بهذا الخليفة، ولا بهذه الخلافة، علماً بأن نسبة من يؤيد "أمير الدواعش" في العالم العربي، والعالم المسمى بالعالم الإسلامي، أكبر من نسبة من يؤيدونك في لبنان، وأكبر بما لا يقاس من عدد الذين رقصوا وغنّوا وأشعلوا الشموع فرحاً بفوزك بكرسي الرئاسة. إذا قلت لي إن أمير "داعش" ليس مسلماً، وباسم الدين يقطع رقاب الناس، فسأقول لك إن السياسيين في لبنان يستغلون الأديان أيضاً ليتحكموا برقاب الناس، بل لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت إن جرائمهم أكبر من جرائم البغدادي، لأنه لو كانت بلداننا تنعم بأنظمة مدنية حرة، لما ظهرت العصبيات الدينية هنا وهناك، ولا ظهر البغدادي وغيره، من الذين يستخدمون اسم "الله" ليشتروا بآيات الكتاب ثمناً قليلاً، ويكونوا أوصياء على الناس. اللبنانيون اليوم يريدون أن يكونوا أحراراً في دولة حرة، لا تكون المناصب فيها حكراً على الطوائف والقبائل والعشائر والعائلات وأمراء الإقطاع، وأنت خير من يدرك يا سيد عون، أنك لو لم تكن من طائفة معينة، لما أتتك الرئاسة منقادة، ولا كان الرؤساء الآخرون ومعهم "نواب الطوائف" الذين انتخبوك، وصلوا إلى المناصب التي هم فيها. هل ترضى أن أنتمي أنا إلى هذا اللبنان، وتنتمي أنت إلى هذا اللبنان، وينتمي أولادنا وأحفادنا إلى هذا اللبنان؟ حتى لو قبلنا على مضض بهذا النظام، أما كان من قبيل احترام المواطنين، أن تجرى مناظرة بينك وبين المرشحين الآخرين، كما الحال في الولايات المتحدة، فيطرح كل مرشح أمام الشعب، وبلغة سليمة رزينة، رؤيته للبنان المستقبل، وما في جعبته من حلول للقضايا الحيوية المتصلة بحياة الناس، كالماء والكهرباء، والصحة والتربية والدفاع، والطبابة واللاجئين، بدلاً من أن يشاهد تلك التسويات المريبة التي تمت فيها عملية الاقتراع، وجاءت بك رئيساً للجمهورية، وجاءت بـ"عدوّ" أمسك رئيساً للوزراء! لقد سمعنا رئيس الوزراء يقول إنه "استسلم"، وبرر تأييده لك رئيساً بالقول إنه فعل ذلك "لمصلحة البلد"! هل كانت "مصلحة البلد" فعلاً في باله ساعة "استسلم"، لو لم تكن المكافأة له على هذا "الاستسلام"، كرسي رئاسة الحكومة؟!
هل ترضى يا سيد عون، أن يقبل المواطن اللبناني بعد، أن ينتمي إلى بلد يصعد الحاكمون فيه على سلّم هويات دينية مزورة، لا علاقة لها بالإيمان لا من قريب ولا من بعيد؟ أليس هذا ضرباً من ضروب استغلال الدين بأبشع الصور؟ من ثمّ أريد أن أسالك، هل النواب "السنة" والنواب "الشيعة" مسلمون حقاً؟! هل النواب "الموارنة" والآخرون من الطوائف التي تسمي نفسها مسيحية، مسيحيون حقاً؟! لماذا هذا الرياء، وهذا الضحك المتواصل على الناس إذن؟! كيف نتوقع من مواطن يحترم حاكماً يضحك هذا الحاكم عليه. لهذا المواطن المسكين المغبون المضحوك عليه الذي انتخب هذا النائب "المسيحي"، وذاك النائب "المسلم" أن يفعل ما يشاء. له أن يمجد الصنم ويعبده، ويطلق النار في الهواء الطلق حباً به. له أن يفديه بالدم والروح، ويسبغ عليه ألقاب الفخامة التي يشاء، لكن هناك في المقابل عشرات الألوف، بل مئات الألوف من المواطنين، الذين تأبى نفوسهم الحرة السير على هذه الدرب الطويلة من آلام الروح، لأنهم يدركون أنها طريق الجلجة التي مآلها الوطن على الصليب. أريد أن ألفتك يا سيد عون إلى شيء حدث في لندن حيث أسكن. أظنك تعرف من أصبح رئيساً لبلدية هذه العاصمة. قد يستحسن التذكير إن ينفع التذكير. هو شاب مسلم، من أصول باكستانية، اسمه صادق خان، ابن مهاجر باكستاني كان يعمل سائقاً في حافلة. كان منافسه على كرسي رئاسة البلدية شاب يهودي اسمه زاك غولد سميث. لم يعترض أحد من سكان لندن التي يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين نسمة على صادق خان لأنه "مسلم"، أو لأن منافسه الآخر "يهودي"!
لندن العريقة التي عمادها الروحي التاريخي كنيسة إنكلترا، غضت الطرف عن دين هذا المحافظ الجديد. السبب أن صادق خان خاطب عقول الناس ولم يخاطب غرائزهم. طرح أمامهم برنامجه لتحسين مرافق الحياة في المدينة، فانتخبوه مرشحاً عن حزب العمال. لا أملك إلا أن أرفع القبعة لهذا الشعب، ويسعدني ألف مرة أن أخاطب صادق خان بلقب سعادة المحافظ، لكن لا أخفي عليك أني أشعر بالمهانة إذا خاطبت أهل الحكم في لبنان، بلقب الفخامة والدولة والمعالي والسعادة، لأن وجود السياسي اللبناني في الحكم، هو إهانة لكل نفس أبية، وأنت تعرف أن انتخابك تم بتسويات من لوردات الطوائف والمنافع والعشائر، وتنازلات ممن كانوا يعتبرونك عدواً، وممن كنت تعتبرهم فاسدين، وها وصولك إلى سدة الرئاسة، يعيدهم إلى التحكم بمقادير البلاد تحت شعار "مصلحة الوطن"! نيتي صافية يا سيد عون. لا أرمي إلى أي تجريح شخصي، لكن يحز في نفسي ويؤلمني إيلاماً لا أستطيع لك وصفه، وأنا أشاهد كيف يصبح الحاكم عندنا حاكماً. سأترك أوروبا وأقرن لبنان بدول تنتمي إلى ما يسمّى العالم الثالث، وأذكّر بدولة أفريقية مسلمة هي السنغال. أظنك تذكر يا سيد عون، أن هذه الدولة النامية جداً انتخبت في أحد الأيام رئيساً مسيحياً اسمه ليوبولد سنغور. كان سنغور شاعراً، واحتفينا به عندما زارنا في الستينيات وألقى علينا كلمة في "الندوة اللبنانية". لم يتردد شعب السنغال الفقير "المسلم" في أن يولي مواطناً "مسيحياً" شؤون الحكم في بلده، في حين أن الدول العربية، التي تعتبر نفسها "أرقى" من الدول الأفريقية، تفرض أن تكون هوية الرئيس وقفاً على مذهب معين، وهذا يصح أكثر ما يصح في لبنان، "بلد الستة الآف سنة من الحضارة"!
لنأخذ مثلاً آخر هو الهند. أظنك تعرف يا سيد عون أن نائب رئيس جمهورية هذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1300 مليون نسمة، يدين معظمهم بالهندوسية، مسلم اسمه محمد حميد أنصاري، كما أن ثلاثة من رؤساء الجمهورية التي تعاقبوا على حكم الهند كانوا مسلمين، آخرهم أبو بكر عبد الكلام الذي توفي العام الماضي. لم تعر الهند الديموقراطية العلمانية، أهمية لدين عبد الكلام فانتخبه المجمع الهندي بنسبة 90 في المئة من الأصوات، وأصبح من أكثر رؤساء الجمهورية شعبية في تاريخ البلاد، وقد سمّاه الهنود "أبا الشعب"، وبكته الملايين ساعة وفاته، بمن فيهم أطفال المدارس، وفي طول البلاد وعرضها.
■ ■ ■
أيّد الجميع خطاب القسم الذي ألقيته في مجلس النواب... لكن بعد ماذا؟! كان خطاباً أُعد سلفاً لأنك كنت مدركاً بالتسويات المريبة وراء الكواليس أن انتخابك رئيساً أمر مؤكد، في حين تفرض الديموقراطية الصحيحة أن يطرح المرشحون الآخرون برامجهم أمام الشعب والنواب قبل الاقتراع، وعلى أساسها يتم اختيار المرشح الأفضل. إن انتخابك رئيساً حرم الشعب اللبناني معرفة برامج المرشحين الآخرين، وهذه قد تكون أفضل لتسييس البلاد مما جاء في خطاب قسمك، هذا على افتراض طبعاً أن لديهم برامج! أما القول إنك رئيس "صنع في لبنان"، كما سمعنا هذه العبارة غير مرة، فاسمح لي بأن أقول لك أن هذه "قوس لا تركب على النشّاب"، كما تقول أمثال عرب البوادي، علماً أن ليس كل "صناعة وطنية" هي بالضرورة أفضل من كل "صناعة أجنبية"! قد أغالب مشاعري، ويغالب الكثيرون من المواطنين مشاعرهم، فنقبلك رئيساً شرعياً لهذه الجمهورية، إذا وقفت اليوم وقبل الغد، وقلت إنك ستعمل على تغيير النظام من أساسه. إذا اتفق وحصل ذلك، سيرفع اللبنانيون لك القبعات إجلالاً واحتراماً، ويسجل لك التاريخ أنك كنت الرئيس الشرعي الوحيد في تاريخ الجمهورية، وبطل الاستقلال الحقيقي. لكن أرجوك أن لا تتحدث عن الفساد وإعادة الإعمار، وما شابه، لأن لا معنى من ذلك كله، إذا الأساس غلط. لا معنى من إنفاق الملايين على تحسين عمارة من الداخل والخارج، ورصف أرضها بأجمل البلاط، وطليها بأجمل الألوان، وتأثيث غرفها بأجمل الأثاث، إذا كان الأساس مختلاً مصدعاً، وأنت تعرف يا سيد عون أن أساس نظامنا مختل مصدع، والدليل أن البلايين التي استدانها لبنان وصارت عبئاً عليه لم تنفع، لأن النظام لا يزال في أساسه، إقطاعياً طائفياً عنصرياً، وها هو الفساد لا يزال مستشرياً، وها هي الكهرباء تقطع في بعض المناطق ساعات ساعات في اليوم، والماء شحيح، والنفايات على الطرق والشواطئ والسهول، والمواطن لا يزال قلقاً على حياته وعلى ومصيره.
شيء آخر لا معنى له يا سيد عون، هو أن تدعو اللبنانيين مرة ثانية إلى الاحتفال بعيد "الاستقلال"، ذلك أن التباهي بأنك الرئيس الوحيد في تاريخ الجمهورية الذي "صنع في لبنان"، يعني أن "الاستقلال" لم يكن في يوم من الأيام تاماً، (هل هو اليوم تام؟!) وأن الاحتفال به عيداً وهمٌ وذر رماد في العيون، وأن اللبنانيين لم ينعموا، منذ رحيل الفرنسيين عن ديارهم، بيوم واحد من الاستقلال الحقيقي! ليتهم "المستعمرون الفرنسيون" بقوا في ديارنا 23 سنة إضافية، لكنا تعلمنا منهم أصول الدولة المدنية، بالقدر الذي تعلمنا فيه لغتهم، لكن زعماءنا "الوطنيين" أرادونا أن نكون "أحراراً"، وأن نكون "مستقلين"! "أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك"، قالتها مدام رولان، وهي في طريقها إلى المقصلة زمن لويس السادس عشر! لا أحد في ذاته ذرة وطنية، يريد حكم المستعمر وحكم الأجانب، لكن نصيب اللبنانيين من الكرامة زمن الفرنسيين، كان أكبر ألف مرة من نصيبهم منها تحت حكم زعمائنا "الوطنيين". هؤلاء حكموا البلد ولا يزالون يحكمونه بشراهة. شوهوا سمعته وأشعلوا فيه الحروب، وساموه كل ألوان الذل والعذاب، وأوجدوا تركيبة قائمة على الضغائن، وعلى تعدد الولاءات، ليبقى كل واحد منهم، أميراً على منطقة وطائفة!
هذا نظام لا يمكن إصلاحه يا سيد عون، ولا بد أن يتغير، ومن الأساس يجب أن نبدأ.
رؤوف قبيسي
* صحافي لبناني
الاثنين 5 ديسمبر 2016