mardi 10 décembre 2013

النهضة تلغّم الدولة و تحفر أنفاق العودة

بعيدا عن المقاربات الفلسفيّة المترفّعة عن واقعنا، وبأقلّ قدر من الحذلقة اللّغويّة يمكن تكثيف المشهد العام برمّته في الصورة الّتي يرسمها المثل الشعبي المأثور : "ناس لاهية بالناس والكلب يمشمش في الراس"، فوسط الجلبة السياسيّة الدائرة حول الحوار الوطني و خلف غبار المعركة الطاحنة و العويل السياسي المصمّ للآذان، تُدار لعبة أكثر خطورة من مسألة إفشال الحوار الوطنيّ وإرجاء استقالة الحكومة و الضوضاء الّتي خلّفها كتاب المرزوقي الأسود - خلافا للون قلبه  بالتّأكيد -، وهي لعبة تفخيخ المنظومة التشريعيّة للدولة بقوانين تسمح بعودة سطوة الحوزة الدينيّة على مفاصل هامّة من الفضاء العام و على مؤسّسات الدولة، وإحكام قبضتها على مسالك الحكم دون الحاجة لأن تكون أيّ حركة إسلاميّة على رأس السلطة.
آخر هذه القوانين الّتي تسعى كتلة حركة النهضة لتمريرها داخل المجلس التّأسيسي، هو قانون المساجد الّذي استلّ من غمد الحركة فجأة، وتمّ إشهاره في وقت تحبس فيه تونس أنفاسها خشية من تداعيات فشل الحوار الوطنيّ وارتفاق نسق تقدّم الدولة إلى حافّة الإفلاس الإقتصاديّ.
قانون يهب دور العبادة دورا تثقيفيّا و تربويّا و اقتصاديّا أيضا، فيتاح للمساجد وفقا لما ورد بالفصل 20 من مشروع القانون - على سبيل الذكر- "تأمين دروس تدارك في مختلف مراحل التعليم لكلا الجنسين وفق البرامج المعمول بها في مؤسّسات التربية وبالتنسيق مع الجهات المعنيّة ، وتأمين دروس في القراءة والمتابة ضمن برامج رفع الأمّيّة، وتأمين دروس في الأخلاق والتربية الدينيّة لعموم النّاس". بما يعني أنّ دور العبادة الّتي تحتلّ المجموعات الدينيّة المتطرّفة بعضها وتتحوّز الهيئات المتحزّبة على أغلب ما تبقّى منها، ويتحوّل عدد منها أحيانا إلى ساحة للإحتراب بين المرجعيّات الدينيّة المتناحرة، ستصبح فضاء لتلقّي العلم والمعرفة يتدارك من خلالها النّاشئة والأمّيّون ما سهت عنه المؤسّسات التّعليميّة الّتي لم يتسنّ للحالمين بالدولة الدينيّة اختراقها وتغيير مناهجها.
القانون يعطي للمساجد سلطة تفوق سلطة وزارات التّربية والتعليم بجميع مراحله، فإن كان التعليم في مؤسّسات الدولة يخضع لضوابط تحدّد الملتحقين به وخرّيجيه ومن يمتهنه، فإنّ أبواب المساجد مشرّعة على مصراعيها لمن هبّ ودبّ، بما يتيح ل"بزناسة" الدين استدراج ما أمكنهم من طالبي المعرفة لتفخيخ عقولهم واستمالتهم إلى التنظيم أو الحزب الّذي يسيطر على المسجد، لا سيّما الأمّيّين منهم الّذين يفتقدون إلى مناعة فكريّة، وهو ما يسهّل حشو عقولهم بأيّ نوع من الموادّ المعدّة للإنفجار.
هكذا يقع تدمير سلطة الدولة على مداخل العلم والمعرفة وإضعاف دور مؤسّساتها "غير المضمونة" وإقامة مؤسّسات موازية ومتمرّدة تستمدّ مشروعيّتها من وكلاء السماء. ومن ذا الّذي يستطيع محاربة من يتدثّر بالسماء؟
هكذا تقفز بذور الدولة الدينيّة من النّافذة وتحاك عمليّة "التّمكين" الهادئ بعيدا عن الضوضاء السّياسيّة. وبتكتيك المخاتلة هذا يتمّ بناء صرح الدولة الكنسيّة الّتي عرفتها أوروبّا في القرون الوسطى على مهل، فإن أُريد للكنيسة اليوم أن تأخذ بعض ممّا للقيصر، فإنّها غدا ودون شكّ ستسطو على كلّ ما للقيصر من صلاحيّات. وبالتّالي تزحف أذرع السلطة الدينيّة على الدولة تدريجيّا بسلطان المال المتدفّق من كلّ حدب وصوب.
تبرز النهضة ومن والاها من الطيف الإسلامي هنا وكأنّها تقول "هنيئا لكم بثوب الدولة، ولكنّي لن أفرّط في جسمها وروحها، سأحقنه بمصل تشريعيّ دينيّ يتسرّب إلى كامل أعضائه ليشلّه على مهل، وستكتشفون أنّكم لن تظفروا سوى بقشور الدولة".
مشروع قانون المساجد لم يكن أوّل مشروع يراهن الإسلاميّون على فرضه في صمت، فقد كان ولازال مشروع قانون الأوقاف محلّ رهان من حركة النهضة. الشّيء الّذي دفع رئيس الحركة راشد الغنّوشي إلى أن يبادر بنفسه إلى الترويج له في خطبة الجمعة وتكفير من يرفضه، بقوله في إحدى خطبه الأخيرة : "مصدر نقمة الّذين ينقمون على الأوقاف في البلاد مريبط بالدين وهم يكرهون أيّ شيء مرتبط بالإسلام".
إستدعاء راشد الغنوشي لسلاح التكفير الأشدّ فتكا لإقناع النّاس بالإنتصار لقانون الأوقاف يعكس حجم مراهنة حركة النهضة على مثل هذه القوانين، الّتي تحفر الأنفاق التّشريعيّة الّتي تُبقي الإسلاميّين في الحكم في صورة خروجهم من البوّابة السّياسيّة.
ليس هذا فحسب، فقبل أسبوع أُثيرت زوبعة حول الإتّفاقيّة الّتي عُقدت في كنف السّريّة بين وزارة الصناعة وبين ديوان الإفتاء بالوزارة الأولى، والّتي تقضي بأن يختصّ ديوان مفتي الجمهوريّة بوضع علامة "حلال" على المنتوجات الصناعيّة والفلاحيّة المعدّة للتّصدير. إتّفاقيّة تنسحب - وفقا لخبراء - في تأويلات بعض بنودها على الموادّ المروّجة في السوق المحلّيّة، بما يمنح ديوان مفتي الديار الّذي لا يفرّق بين الحبيب بورقيبة وأبو عياض سلطةاقتصاديّة تتيح له الإفتاء في شرعنة وتأثيم الموادّ المصنّعة. ولولا صرخات بعض الصناعيّين وأهل القطاع في المنابر الإعلاميّة لما تمّ تعليق العمل بهذه الإتّفاقيّة - إن تمّ ذلك فعلا-.
ستتجدّد محاولات تمرير القوانين الّتي تهدف إلى تقويض وتشتيت سلطة الدولة لإنهاكها والعمل على إفراغ صلاحيّاتها في علب دينيّة مصطنعة، وستستمرّ عمليّة تفخيخ المنظومة التّشريعيّة بقوانين مؤجّلة الإنفجار. حدث وسيحدث ذلك وسط حالة الشرود العام الّتي يعيشها بلد منهك.
توفيق العيّاشي
آخر خبر، العدد 71
الثلاثاء 10 ديسمبر 2013، ص. 2

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire