dimanche 6 octobre 2013

كونوا واقعيّين أطلبوا المستحيل

إنّنا نعيش الرهبة من الفوضى و بلبلة الأفكار و تغيير العقائد والإيديولوجيّات فكلكل القمع و منع المجتمع من التعبير عن تناقضاته على نحو مدنيّ كلكل ضاغط قاهر.
إنّنا نعيش قلقا عميقا من الآتي و ما يخفيه (وإن كان مجلسا تأسيسيّا و حكومة شرعيّة و رئيسا جديدا) فشبح الديكتاتور مازال يحوم على مدينتنا و يعمّر أفئدتنا. إنّنا نعيش تهديدات مختلفة لهويّة تشكّلت تاريخيّا في الضمير الجمعيّ و المخيال فمازلنا واقعين بصور مختلفة تحت صدمة الحداثة المعطوبة الّتي لم تزدها العولمة و سهولة حركة الأفكار و الأوهام و الأخطار إلاّ هزّات ارتداديّة لزلزال هزّ الوجدان هزّا.
ولكن الحاصل أنّنا بقلقنا و رهبتناو أوهامنا عن ذواتنا كمن ينتظر البرابرة الّذين لن يأتوا فنستسهل الحدّ من الحرّيّة : حرّيّة بسط الأفكار المفزعة و الآراء غير المألوفة و القضايا الّتي تبدو لنا محرّمة و المسائل الّتي نتوهّم أنّ القول الفصل فيها قد قيل.
لو فكّر المصلح الزيتونيّ 'الطاهر الحدّاد' في أمر المرأة و الأسرة و المجتمع تفكيرا يراعي الجمهور و الدهماء و التوقيت و الظروف و الأولويّات لاحتفظ بامتيازاته شيخا جليلا يبيع بضاعة مطمئنة مكرّرة لما حفظ من المتون و الحواشي.
و لو فكّر المبدع 'أبو القاسم الشابّي' في الخيال و اللّغة الّتي نقول بها الوجود و الوجدان تفكيرا مشدودا إلى مقرّرات البيان يستعيد ذاكرة البديع و تقاليد القول و عمود الشّعر لما دعا النّاس إلى النّور و "النّور عذب جميل".
و لو فكّر المحامي المثقّف 'الحبيب بورقيبة' في الدولة و العائلة و التربية و التعليم و القضاء الموحّد بمنطق العرف و العادة و ما يقبله الحسّ المشترك لما صنع جيلا قادرا على حفر قبور المستبدّين الجهلة و على تفكيك جهاز الحزب العتيد الّذي بناه، ويا للمفارقة، بورقيبة نفسه.
لقد كانوا واقعيّين جدّا فطلبوا المستحيل الّذي لم يخطر على بال جماهير شعبهم أصلا ضمن جدليّة أصيلة توسّع فضاء قول ما لا يقال ليدخل مجال المفكّر فيه و تصنع أسئلة صادمة حارقة تهدم بقدر ما تبني.
يحقّ للسّياسيّ أن يمارسلعبة الممكن بمرحليّتها و توقيتها و مراعاتها للظّرفيّ و التّكتيكيّ و له أن يرضخ للحسّ المشترك و يتلاعب بالقلوب و العقول في ركونها للثوابت و احتمائها بالهويّة الجامدة.
لكن من واجب المثقّف التّونسيّ الأصيل أن يواصل تقاليد ثقافته التّحديثيّة صانعة الأسئلة الجديدة في ضرب من طلب المستحيل الّذي يوسّع هامش الحرّيّة و يقلّص من متن المحرّم و الممنوع.
يبدو لي أنّ الواقع و الممكن و الضروريّ و الظرفيّ مفردات من معجم السياسيّين تنتهي بهم إلى الحدّ من الحرّيّة باسم "المسؤوليّة الوطنيّة" مثلا أو "المصلحة العامّة" أو "هويّة البلاد و العباد".
 إنّها لخيبة واضحة قاتلة أن يقتفي المثقّف الأصيل  خطى السياسيّين فلا يتحصّن بالإرادة القويّة ضدّ الواقع البائس وبالخيال الخلاّق ضدّ الممكن الكاذب و بالرّغبة الجامحة ضدّ الضرورة القاسية و بمطلق الحرّيّة ضدّ الظرفيّ التكتيكيّ العابر
د. شكري مبخوت
المغرب، العدد 50،
الجمعة 21 أكتوبر 2011
ص. 20-21

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire